بين التعطيش والحصار
كيف تحوّل الوصول إلى المياه في غزة إلى معركة يومية؟
في غزة، لا تُقاس الكارثة بعدد الضحايا فحسب، بل بعدد الليترات التي يفقدها الناس كل يوم، وبينما يتابع العالم مشاهد القصف والدمار، هناك حرب أخرى صامتة تخوضها العائلات: حرب الحصول على الماء.
صرنا نغسل وجوه أطفالنا بمنديل ناشف، نطبخ بمياه غير نظيفة، وأحيانًا بنخلي الوجبة جافة بدون مي، علشان نوفر مي للرضيع.
أزمة متجذّرة
لم تبدأ أزمة المياه في غزة مع الحرب الأخيرة، بل هي نتيجة تراكمات طويلة من التدمير الممنهج، والحرمان المتواصل من حقوق المياه، حيث أظهرت تقارير أممية سابقة أن أكثر من 97٪ من مياه غزة غير صالحة للشرب، وأن الخزان الجوفي ملوث بمياه البحر والمجاري والمخلفات العسكرية.
تدمير البنية المائية: 82% من المنشآت خارج الخدمة
حتى 20 تموز/يوليو 2025، كانت 573 منشأة من أصل 696 منشأة مائية وصرف صحي – أي 82% – تقع في مناطق تحت السيطرة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي أو التي أُجبر سكانها على النزوح منها، هذا يعني أن ثمانية من كل عشرة مرافق مائية إما مدمّرة، أو غير آمنة للوصول، أو لا يمكن تشغيلها.
تجفيف الآبار: من 220 إلى 79 فقط
في أبريل/نيسان، كان الناس في غزة يعتمودون على أكثر من 220 بئر مياه، موزعة على مختلف المناطق، أما اليوم، فلم يبقَ سوى 79 بئرًا عامل، أي انخفاض بنسبة 64٪ خلال أقل من ثلاثة أشهر.
ولم يقتصر التراجع على العدد، بل على الإنتاج الفعلي للمياه أيضًا، إذ انخفض من 100,000 متر مكعب يوميًا إلى 31,000 متر مكعب فقط – بنسبة تراجع بلغت 69٪.
كنت أعبّي الجالون من جامع الحارة أو من محطة المياه، اليوم لا جامع، ولا محطة، ولا مي، ولا دور يوصلني حتى.
حتى المياه التي تُنتج تواجه مشكلة الفاقد الكبير بسبب الشبكات المتضررة، وبحسب التقارير، تتراوح نسبة الفقد في المياه بين 50 إلى 80٪ حسب الموقع، ما يعني أن أكثر من نصف المياه تضيع قبل أن تصل إلى الناس.
محطات التحلية: طوارئ مشلولة
محطات التحلية كانت بمثابة “خط طوارئ” يمدّ غزة بالماء، لكن اليوم، بعد أن عطّل الاحتلال معظمها، أصبحت لا تنتج سوى 4,700 متر مكعب يوميًا، رغم أن قدرتها التشغيلية تتجاوز 22,000 متر مكعب – أي أنها تعمل بـ21٪ فقط من طاقتها، نتيجة نقص الكهرباء وغياب قطع الغيار.
ماذا عن خطوط الاحتلال المباشرة!
من أصل 3 خطوط مياه رئيسية تصل من شركة “ميكوروت” التابعة للاحتلال الإسرائيلي، يعمل خط واحد فقط – خط خانيونس – بعد إصلاحه في 19 تموز. أما خط غزة الرئيسي فتوقّف بالكامل في 20 تموز، ليقطع المياه عن واحدة من أكثر المناطق اكتظاظًا بالسكان.
الحد الأدنى من الحياة
الصدمة الكبرى جاءت في تقرير WASH الأخير، حيث أصبحت حصة الفرد اليومية من المياه في بعض مناطق النزوح لا تتجاوز لترين فقط. في المقابل، تؤكد المعايير الإنسانية أن الحد الأدنى للحاجة اليومية للفرد من المياه هو 50–100 لتر، تشمل الشرب، النظافة، الغسيل، والطهي.
المي صارت زي الذهب، ما بنشرب إلا بالغصب… وبنحسب كل نقطة.
أما في مدينة غزة، فقد أعلنت بلديتها أن الآبار العاملة لا تغطي سوى 12٪ من الاحتياج اليومي الأدنى، في وقت تشهد فيه أحياء واسعة انقطاعًا تامًا في المياه لعدة أيام متتالية.
التعطيش كسلاح
هذه الأرقام لا تشير فقط إلى أزمة تقنية أو بيئية، بل إلى استخدام المياه كسلاح في وجه أهالي قطاع غزة. فاستهداف محطات الضخ، وتعطيل خطوط الإمداد، ومنع إدخال الوقود، كلها إجراءات تفضي إلى عقاب جماعي عبر العطش.
وفي ظل شح المساعدات، وتعذر تشغيل محطات الصرف والتحلية، وانهيار أنظمة التوزيع، تبقى العائلات كعائلة “أم محمد” رهينة الانتظار، ليس لماء نظيف… بل لأي نقطة يمكن أن تطيل الحياة يومًا آخر.